ثمة مشكلة أساسية تؤثر على رؤيتنا للصراع مع إسرائيل، تتمثل في هيمنة السرديات المتعلقة بالصراع على الواقع، ويترتب على ذلك الميل لعدم رؤية المتغيرات في بيئات الصراع الثلاث.. البيئة الداخلية والبيئة الإقليمية والبيئة الدولية، وحاولت من سلسلة المقالات التي كتبتها عن حرب غزة ونشرها موقع المشهد التنبيه إلى التغيرات في البيئات الثلاث وتأثير ذلك على مسار الحرب.. فرؤيتنا لإسرائيل وللصراع معها تتسم بالجمود، ويفسر هذا الجمود الطريقة التي نتعامل بها مع التصريحات التي تصدر عن كبار المسؤولين الإسرائيليين، لاسيما تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بخصوص الشرق الأوسط الجديد، والذي تحدث عنه لأول مرة بعد اغتيال السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، في هجوم جوي على مقر القيادة في الضاحية الجنوبية في بيروت يوم 29 سبتمبر عام 2024، ومرة أخرى بعد المواجهات العسكرية التي استهدفت منشآت في إيران في يونيو الماضي والتي استمرت 12 يومًا، أو ما قاله في مقابلة مع قناة آي. 24 التلفزيونية الإسرائيلية عن مهمته التاريخية في إقامة إسرائيل الكبرى، والتي ترجمناها على الفور بما يتفق مع ما نعتقده بخصوص المشروع الصهيوني لإقامة "إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات".
هذه المشكلة تعطل حتى أي محاولة لتحليل هذه التصريحات واختبار مدى معقوليتها وصلتها بالواقع الذي نعايشه، مع ميل للاعتقاد بتحققها الآن أو في المستقبل القريب، ويعكس هذا الموقف حالة ذهنية ونفسية استقرت في نفوس كثير من النخبة والجمهور معًا، معززة بنظريات "المؤامرة" ونجاح الاستراتيجية الإسرائيلية التي تحظى بدعم أمريكي غير محدود وعدم القدرة على تجسيد كثير من الشعارات التي اعتدنا سماعها من القوميين واليسار والإسلاميين، والأخطر أن مثل هذه الحالة تدفعنا إلى التقليل من شأن أي مكاسب جرى تحقيقها في صراعنا مع إسرائيل سواء بوسائل أو بأدوات دبلوماسية وسياسية، مثل نجاح مصر في تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر 1973 ومن خلال الدبلوماسية التي بدأت بمفاوضات فض الاشتباك، ومبادرة الرئيس الراحل أنور السادات وخطابه أمام الكنيست، ثم الانتفاضة الفلسطينية في عام 1987 والتي كانت أول تجربة في العالم العربي لتطبيق استراتيجيات اللاعنف، أو في مفاوضات أوسلو، وأخيراً التهوين من شأن التحركات الراهنة للاعتراف الرسمي بدولة فلسطينية، وهي عقلية تدفعنا إلى تقبل الخسائر التي نمنى بها باعتبارها انتصارات وتغيير في المعادلة، وإنكار المكاسب التي تحققت بوسائل أخرى غير العمل المسلح.
في المقال المرفق، للدكتور محمد مجاهد الزيات، محاولة لتقييم إدعاء نتنياهو بخصوص الشرق الأوسط الجديد بعد المواجهات مع إيران، لإثبات أن نتيجة المواجهات العسكرية مع إيران وفق التصريحات الإسرائيلية والأمريكية لم تغير شيئا في معادلة الشرق الأوسط التي استقرت على أساس فكرة وجود محور للمقاومة في مواجهة محور التطبيع. لقد طالبت في أكثر من مقال بالعمل على صياغة استراتيجية شاملة للمواجهة ولإدارة الصراع يتجاوز هذا الانقسام ويدمج الوسائل العسكرية بالوسائل الدبلوماسية والأدوات الأخرى، والعمل على تغيير نمط العلاقات السائد في المنطقة والذي تنجح إسرائيل والولايات المتحدة والقوى الطامحة للهيمنة على المنطقة في توظيفه واستغلاله. إن الوصول إلى مثل هذه الاستراتيجية يتطلب تبني منظور جديد للصراع متحرر من ثقل السردية ويحلل الواقع وتحولاته ومعرفة كيفية استثمار هذه التحولات وتوظيفها والتخلي عن منطق الصراع الصفري الذي يحسم بكسب كل شيء أو خسارة كل شيء لأن الخبرة تنبئنا بأن هذا النهج لن يحدث فارقًا لصالح الفلسطينيين.
إننا بحاجة للبدء في حوار استراتيجي مفتوح وممتد للبحث في سبل جديدة لإدارة الصراع بعد حرب غزة والانطلاق مع التغيرات في البيئات الثلاث. لقد كتب الأستاذ الكبير أحمد بهاء الدين في أعقاب حرب عام 1967، محللا أسباب هزيمة جيوش ثلاث دول عربية في هذه الحرب انطلاقا من الأخذ بأسباب العلم ومعايشة العصر، إنها صياغة أخرى للدعوة إلى تفكيك السرديات الحاكمة لهذا الصراع، أو على الأقل لتحييج تأثيرها في الخطاب العام، بدلا من ترسيخها عبر السياسات الإعلامية لكبري المنصات في العالم، مثل قناة الجزيرة التي وضعت هدفا يتعلق بانتاج سردية فلسطينية مضادة للسردية الإسرائيلية.. إن وظيفة الإعلام لا تقتصر فقط على انتاج سرديات كبرى أو صغرى، وإنما ذكر الوقائع والحقائق وإطلاق العقول للتفكير. وأذكر بما قاله خالد محمد خالد في كتاب "من هنا نبدأ" الذي كتبه بعد حرب عام 1948، لإدراك أن الطريق لتحرير فلسطين إنما يبدأ بتحرير عقولنا وإرادتنا من أسر السرديات الكبرى، وأن تغيير الواقع يبدأ بالإنطلاق منه على إنكاره والتحليق بعيدا وراء أحلام والاكتفاء بأنها ستصبح حقيقة في يوم ما، استنادا إلى إيماننا بانتصار الحق. إن الخلاف ليس خلافا حول الأدوات والوسائل، ولكنه خلاف حول شكل المستقبل الذي نتطلع إليه.
---------------------------
بقلم: أشرف راضي